فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ذلك عيسى ابن مريم، لا ما يقوله المؤلهون له أو المتهمون لأمه في مولده.. ذلك هو في حقيقته وذلك واقع نشأته. ذلك هو يقول قول الحق الذي فيه يمترون ويشكون. يقولها لسانه ويقولها الحال في قصته: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} تعالى وتنزه فليس من شأنه أن يتخذ ولدًا.
والولد إنما يتخذه الفانون للامتداد، ويتخذه الضعاف للنصرة. والله باق لا يخشى فناء، قادر لا يحتاج معينًا. والكائنات كلها توجد بكلمة كن. وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون.. فما يريد تحقيقه يحققه بتوجه الإرادة لا بالولد والمعين.. وينتهي ما يقوله عيسى عليه السلام ويقوله حاله بإعلان ربوبية الله له وللناس، ودعوته إلى عبادة الله الواحد بلا شريك: {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}.. فلا يبقى بعد شهادة عيسى وشهادة قصته مجال للأوهام والأساطير.. وهذا هو المقصود بذلك التعقيب في لغة التقرير وإيقاع التقرير.
وبعد هذا التقرير يعرض اختلاف الفرق والأحزاب في أمر عيسى فيبدو هذا الاختلاف مستنكرًا نابيًا في ظل هذه الحقيقة الناصعة: {فاختلف الأحزاب من بينهم}..
ولقد جمع الإمبراطور الروماني قسطنطين مجمعًا من الأساقفة وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة بلغ عدد أعضائه ألفين ومائة وسبعين أسقفًا فاختلفوا في عيسى اختلافًا شديدًا، وقالت كل فرقة فيه قولًا.. قال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء. وقال بعضهم: هو ابن الله، وقال بعضهم: هو أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن والروح القدس. وقال بعضهم: هو ثالث ثلاثة: الله إله وهو إله وأمه إله. وقال بعضهم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته. وقالت فرق أخرى أقوالًا أخرى. ولم يجتمع على مقالة واحدة اكثر من ثلاث مائة وثمانية اتفقوا على قول. فمال إليه الإمبراطور ونصر أصحابه وطرد الآخرين وشرد المعارضين وبخاصة الموحدين.
ولما كانت العقائد المنحرفة قد قررتها مجامع شهدتها جموع الأساقفة فإن السياق هنا ينذر الكافرين الذين ينحرفون عن الإيمان بوحدانية الله، ينذرهم بمشهد يوم عظيم تشهده جموع أكبر، وترى ما يحل بالكافرين المنحرفين: {فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}.
ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم. بهذا التنكير للتفخيم والتهويل. المشهد الذي يشهده الثقلان: الإنس والجن، وتشهده الملائكة، في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار.
ثم يأخذ السياق في التهكم بهم وبإعراضهم عن دلائل الهدى في الدنيا. وهم في ذلك المشهد أسمع الناس وأبصر الناس: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين}..
فما أعجب حالهم!.. لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة. وهم أسمع شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ولإسماعهم ما يكرهون وتبصيرهم ما يتقون في مشهد يوم عظيم!
{وأنذرهم يوم الحسرة}.. يوم تشتد الحسرات حتى لكأن اليوم ممحض للحسرة لا شيء فيه سواها، فهي الغالبة على جوه، البارزة فيه. أنذرهم هذا اليوم الذي لا تنفع فيه الحسرات: {إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} وكأنما ذلك اليوم موصول بعدم إيمانهم، موصول بالغفلة التي هم فيها سادرون.
أنذرهم ذلك اليوم الذي لا شك فيه؛ فكل ما على الأرض ومن على الأرض عائد إلى الله، عودة الميراث كله إلى الوارث الوحيد!
{إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون}.. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)}.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {أسمع بهم وأبصر} يقول الكفار يومئذ أسمع شيء وأبصره، وهم اليوم لا يسمعون ولا يبصرون.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن قتادة في قوله: {أسمع بهم وأبصر} قال: اسمع قوم وأبصر قوم {يوم يأتوننا} قال: ذلك والله يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم في قوله: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} قال: والله ذلك يوم القيامة، سمعوا حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟، فيشرفون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟، فيشرفون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح، فيقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة} وأشار بيده وقال: أهل الدنيا في غفلة».
وأخرج النسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة} قال: «ينادى يا أهل الجنة، فيشرفون، وينادى يا أهل النار، فيشرفون وينظرون، فيقال: ما تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، فيجاء بالموت في صورة كبش أملح، فيقال: هذا الموت فيقرب ويذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود لا موت، ويا أهل النار، خلود ولا موت، ثم قرأ {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر}».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة} قال: يصوّر الله الموت في صورة كبش أملح، فيذبح فييأس أهل النار من الموت فيما يرجونه، فتأخذهم الحسرة من أجل الخلود في النار.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر} قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، يأتي الموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد يا أهل الجنة، هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، ولا يبقى أحد في عليين ولا في أسفل درجة من الجنة إلا نظر إليه، ثم ينادي يا أهل النار، هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد في ضحضاح من النار ولا أسفل درك من جهنم إلا نظر إليه، ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادي يا أهل الجنة، هو الخلود أبد الآبدين. ويا أهل النار هو الخلود أبد الآبدين، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتًا من فرحة ماتوا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتًا من شهقة ماتوا، فذلك قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر} يقول: إذا ذبح الموت.
وأخرج ابن جرير من طريق علي، عن ابن عباس يوم الحسرة، هو من أسماء يوم القيامة. وقرأ {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 56].
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب إلى عامله بالكوفة، أما بعد: فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت، فجعل مصيرهم إليه، فقال: فيما أنزل في كتابه الصادق الذي أنزله بعلمه، وأشهد ملائكته على خلقه أنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}:
هذا لفظُه أمرٌ ومعناه التعجبُ، وأصَحُّ الأعاريبِ فيه كما تقرَّر في علم النحو: أنَّ فاعلَه هو المجرورِ بالباءِ، والباءُ زائدةٌ، وزيادتُها لازمةٌ إصلاحًا للَّفظِ، لأنَّ أَفْعِلْ أمرًا لا يكون فاعلُه إلا ضميرًا مستترًا، ولا يجوزُ حَذْفُ هذه الباءِ إلا مع أَنْ وأنَّ كقوله:
تَرَدَّدَ فيعا ضَوْءَها وشُعاعُها ** فَاَحْصِنْ وأَزْيِنْ لامرِئٍ أن تَسَرْبَلا

أي: بأَنْ تَسَرْبَلَ، فالمجرور مرفوعُ المحلِّ، ولا ضميرِ في أَفْعَلِ. ولنا قولُ ثانٍ: إن الفاعلَ مضمرٌ، والمرادُ به المتكلمُ كأنَّ المتكلمَ يأمر نفسَه بذلك والمجرورُ بعده في محلِّ نصب، ويُعزَى هذا للزجاج.
ولنا قول ثالث: أن الفاعلَ ضميرُ المصدرِ، والمجرورَ منصوبُ المحلِّ أيضًا، والتقديرُ: أحسِنْ يا حُسْنُ بزيدٍ. ولشَبَهِ هذه الفاعلِ عند الجمهور بالفَضْلَة لفظًا جاز حَذْفُه للدلالةِ عليه كهذه الآيةِ فإنَّ تقديرَه: وأَبْصِرْ بهم. وفيه أبحاثٌ موضوعُها كتبُ النحو.
وقوله: {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} معمولٌ ل {أَبْصِرْ}. ولا يجوز أن يكونَ معمولًا ل {أَسْمِعْ} لأنه لا يُفْصَلُ بين فعلِ التعجبِ ومعمولِه، ولذلك كان الصحيحُ أنه لا يجوزُ أن تكونَ المسألة من التنازع. وقد جَوَّزه بعضُهم ملتزِمًا إعمالَ الثاني، وهو خلافُ قاعدةِ الإِعمال. وقيل بل هو أمرٌ حقيقةً، والمأمورُ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أَسْمِعِ الناسَ وأَبْصِرْهم بهم وبحديثهم: ماذا يُصنع بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية.
وقوله: {اليوم} منصوبٌ بما تضمنَّه الجارُّ مِنْ قوله: {في ضلال مبين}، أي: لكن الظالمون استقروا في ضلال مبين اليوم. ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يُخْبَر عن الجثةِ بالزمان بخلافِ قولك: القتال اليوم في دارِ زيدٍ، فإنه يجوز الاعتباران.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}.
قوله تعالى: {إِذْ قُضِيَ الأمر}:
يجوز أن يكونَ منصوبًا بالحَسْرَةِ، والمصدرُ المعرَّفُ بأل يعملُ في المفعولِ الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف؟ ويجوز أَنْ يكونَ بدلًا مِنْ {يوم} فيكون معمولًا ل {أَنْذر} كذا قال أبو البقاء والزمخشري وتبعهما الشيخُ، ولم يَذْكر غيرَ البدل.
وهذا لا يجوزُ أن كان الظرف باقيًا على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أَنْ يعملَ المستقبل في الماضي، فإن جَعَلْتَ {اليوم} مفعولًا به، أي: خَوِّفْهم نفسَ اليومِ، أي: إنهم يخافون اليومَ نفسَه، صَحَّ ذلك لخروجِ الظرفِ إلى حَيِّزِ المفاعيل الصريحة.
وقوله: {لكن الظالمون} من إيقاعِ الظاهرِ موقعَ المضمرِ.
قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} جملتان حاليتان وفيهما قولان، أحدهما: أنهما حالان من الضميرِ المستترِ في قوله: {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، أي: استقرُّوا في ضلالٍ مبين على هاتين الحالتين السَّيئتين. والثاني: أنهما حالان مِنْ مفعولِ {أَنْذِرْهُم} أي: أَنْذِرهم على هذه الحالِ وما بعدَها، وعلى الاولِ يكون قوله: {وَأَنْذِرْهُم} اعتراضًا.
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}.
وقرأ العامَّةُ {يُرْجَعون} بالياء من تحت مبنيًا للمفعول. والسلمي وابن أبي إسحاق وعيسى مبنيًا للفاعل، والأعرج بالتاء مِنْ فوقُ مبنيًا للمفعول على الخطاب، ويجوز أن يكونَ التفاتًا وأن لا يكونَ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39]، وفي سورة المؤمن: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر: 18]، والمراد في الآيتين تذكريهم بالقيامة وأهوالها، ثم اختلفت العبارة في الكناية، ففي سورة مريم: {يَوْمَ الْحَسْرَةِ}، وفي سورة المؤمن: {يَوْمَ الْآزِفَةِ}، فللسائل أن يسأل عن ذلك؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن اليوم المشار إليه يشتمل على موقف ومواطن مهولة وأحوال مختلفة، وبحسب ذلك تختلف العبارة والأخبار لاختلاف المقاصد والمواطن، ألا ترى قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27]، وقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، ولا شك في أن هذا في مواططن مختلفة، وبحسب ذلك اختلفت الكناية كما أضيف إليه اليوم هنا، فيوم الحسرة عبارة عن الوقت الذي يحصل فيه العلم اليقين لأهل النار بتأييد خلودهم واستمرار عذابهم إلى غير نهاية، ويتأكد لأهل الجنة علمهم بذلك، فلا أشد فرحًا من أهل الجنة يومئذ، ولا أشد حسرة من أهل النار، وفي هذا ورد الخبر الصحيح من أنه إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ينادي يا أهل الجنة فيشرئبون، وينادي يا أهل النار كذلك، ويؤتى بالموت فيقال لهذا هل تعرفونه فيقولون نعم... الحديث، إلى قوله فيه: يا أهل الجنة خلود لا موت، ويا أهل الناء خلود لا موت، فإذا ذلك تعظم حسرتهم ويشتد كربهم، ونص الحديث على ما رُويناه في صحيح مسلم عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح»، زاد أبو كريب «فيوقف بين الجنة والنار»، واتفقنا في سياقي الحديث «فقيل: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]، وأشار إلى الدنيا». قلت وهذا الحديث من مشكلات الأحاديث، وله وجه من التأويل يرفع إشكاله، وقد تفسرت مظنة الحسرة في قوله تعالى: {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} والمراد به استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار كما ورد في الخبر، وحق لمن تقدم ذكره قبل هذه الآية ممن وقع في العظيمة من أمر عيسى، عليه السلام، حين قالوا: ابن الله مع إقرارهم بالبعث الأخراوي والجزاء، فحق لهم أن يذكروا تحذيرًا وتخويفًا بمثل هذا، ولم يتقدم الآية ذكر غيرهم، فهذا أوض تناسب.
وأما آية سورة المؤمن فقد ورد قبلها قوله تعالى خطابًا للمؤمنين: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]، ثم تابع الكلام معه إلى الآية من قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} [غافر: 18]، فخوفوا بإسراع أمر الساعة وتعجيل وقوعها كما قال سبحانه {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]، أزف الشيء أسرع ومنه قوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 57-58]، وتأمل ما اتصل بقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} [غافر: 18]، وقوله: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18]، فقد تناسب هذا ووضح، أما ما ورد في الآيتين فهو على أتم مناسبة، وإن عكس (الوارد) على ما يبنا لا يلائم، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}.
تصير معارفهم ضروريةً، وأحوالُهم كلُّها معكوسةًَ، الحُجَّة تتأكَّد عليهم، والحاجةُ لا تُسْمَعُ منهم، والرحمةُ لا تتعلَّق بهم، فلا تُرْحَم شكاتُهم، ولا يُسْمَعُ نِداؤُهم.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}.
تقوم الساعةُ بغتةً، وتصادفهم القيامةُ وهم غيرُ مستعدين لها فيتحسَّرون على ما فاتهم.
ويقال يوم الحسرة يوم القسمة حين سَبَقَتْ لقوم الشقاوةُ- وهم في محو العَدَم، ولآخرين السعادة- وهم بنعت العدم- ولم يكن من أُولئك جُرْم بَعْدُ، ولا مِنْ هؤلاء وِفَاقٌ بعدُ.
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}.
يريد به إذا قَبَضَ أرواحَ بني آدم بجملتهم، ولم يبقَ على وجه الأرض منهم واحدٌ، وليس يريد به استحداث مُلْكِه، وهو اليومَ مالِكُ الأرض ومَنْ عليها، ومالكُ الكونِ وما فيه.
ويقال إن زكريا قال- لمَّا سأل الولد: {يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] وقال تعالى في صفة بني إسرائيل: {كّذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءِيلَ} [الشعراء: 59] وقال: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُررِثُهُا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128]، ولما انتهى إلى هذه الأمة قال: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمنْ عَلَيْهَا}.. فشتان بين مَنْ وارِثُه الوَلَدُ وبين مَن ْ وارِثُه الأَحَدُ!
ويقال هان على العبد المسلم إِذل مات إذا كان الحقُّ وارثَه.... وهذا مخلوق يقول في صفه مخلوق:
فإِنْ يكُ عتَّابٌ مضى لسبيله ** فما مات من يبقى له مِثْلُ خالدِ

وقال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَاءُ} [آل عمران: 168] لماذا؟ لأَِنَّ وارثَهم اللَّهُ. اهـ.